فصل: المبحث الثاني (في صيغة الاستعاذة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الدمياطي:

باب الاستعاذة:
هي مستحبة عند الأكثر وقيل واجبة وبه قال الثوري وعطاء لظاهر الآية وقال بعضهم موضع الخلاف إنما هو في الصلاة خاصة أما في غيرها فسنة قطعا وعلى الأول هي سنة عين لا سنة كفاية فلو قرأ جماعة جملة شرع لكل واحد الاستعاذة والذي اتفق عليه الجمهور قديما وحديثا أنها قبل القراءة وقيل بعدها ونقل عن حمزة وقيل قبلها بمقتضى الخبر وبعدها بمقتضى القرآن جمعا بين الأدلة ونقل الثاني عن مالك وغيره لم يصح وكذا الثالث والمختار لجميع القراء في كيفيتها أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وهو المأخوذ به عند عامة الفقهاء وحكى فيه الإجماع لكنه تعقب بما روى من الزيادة والنقص فلا حرج على القارئ في الإتيان بشيء من صيغ الاستعاذة مما صح عند أئمة القراء.
فمما ورد في الزيادة على اللفظ المتقدم أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم نص عليه الداني في الجامع ورواه أصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري بإسناد جيد وروى ذلك عن الحسن مع زيادة إن الله هو السميع العليم مع الإدغام وعن الأعمش من رواية المطوعي أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إن الله هو السميع العليم وعن الشنبوذي كذلك لكن بالإدغام.
ومما ورد في النقص عنه ما في حديث جبير بن مطعم المروي في أبي داود أعوذ بالله من الشيطان فقط.
ويستحب الجهر بها عند الجميع إلا ما صح من إخفائها من رواية المسيبي عن نافع ولحمزة وجهان الإخفاء مطلقا والجهر أول الفاتحة فقط والمراد بالإخفاء الإسرار على ما صوبه في النشر ومحل الجهر حيث يجهر بالقراءة فإن أسر القراءة أسر الاستعاذة لأنها تابعة وهذا في غير الصلاة أما فيها فالمختار الإسرار مطلقا وقيد أبو شامة إطلاقهم اختيار الجهر بحضرة سامع ويجوز الوقف على التعوذ ووصله بما بعده بسملة كان أو غيرها من القرآن وظاهر كلام الداني أن الأول وصلها بالبسملة وأما من لم يسم فالأشبه الوقف على الاستعاذة ويجوز الوصل وعليه لو التقى مع الميم مثلها نحو (الرجيم ما ننسخ) أدغم من مذهبه الإدغام كما يجب حذف همزة الوصل في نحو (الرجيم اعلموا أنما).
تتمة إذا قطع القارئ القراءة:
لعارض من سؤال أو كلام يتعلق بالقراءة لم يعده بخلاف ما إذا كان الكلام أجنبيا ولو رد السلام فإنه يستأنف الاستعاذة وكذا لو كان القطع إعراضا عن القراءة. اهـ.

.قال عبد الفتاح القاضي:

باب الاستعاذة يتعلق بها ثلاثة مباحث:
الأول في حكمها.
الثاني في صيغتها.
الثالث في كيفيتها.

.المبحث الأول (في حكم الاستعاذة):

اتفق العلماء على أن الاستعاذة مطلوبة من مريد القراءة. واختلفوا بعد ذلك هل هذا الطلب على سبيل الندب أو على سبيل الوجوب؟ فذهب جمهور العلماء وأهل الأداء إلى الأول، وقالوا إن الاستعاذة مندوبة عند إرادة القراءة. وحملوا الأمر في قوله تعالى: {فاذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} على الندب. فلو تركها القارئ لا يكون آثما.
وذهب بعض العلماء إلى الثاني، وقالوا: إن الاستعاذة واجبة عند إرادة القراءة وحملوا الأمر في الآية المذكورة على الوجوب. وقال ابن سيرين- وهو من القائلين بالوجوب: لو أتى الإنسان بها مرة واحدة في حياته كفاه ذلك في إسقاط الواجب عنه، وعلى مذهب هؤلاء لو تركها الإنسان يكون آثما.

.المبحث الثاني (في صيغة الاستعاذة):

المختار لجميع القراء في صيغتها (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) لأنها الصيغة الواردة في سورة النحل. ولا خلاف بينهم في جواز غير هذه الصيغة من الصيغ الواردة عند أهل الأداء سواء نقصت عن هذه الصيغة نحو أعوذ بالله من الشيطان، أم زادت نحو أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، أو أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، أو أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنه هو السميع العليم، أو إن الله هو السميع العليم، أو أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم إلى غير ذلك من الصيغ الصحيحة الواردة عن أئمة القراءة.

.المبحث الثالث (في كيفية الاستعاذة):

روي عن نافع أنه كان يخفي الاستعاذة في جميع القرآن. ومثل هذا روي عن حمزة. وروى خلف عن حمزة أيضا أنه كان يجهر بها أول الفاتحة خاصة ويخفيها بعد ذلك في سائر القرآن. وروى خلاد عنه أنه كان يجيز الجهر والإخفاء جميعا لا ينكر على من جهر ولا على من أخفى، لا فرق في ذلك بين الفاتحة وغيرها من سائر القرآن الكريم.
ولكن المختار في ذلك لجميع القراء العشرة التفصيل فيستحب إخفاؤها في مواطن، والجهر بها في مواطن أخرى.

.مواطن الإخفاء:

(1) إذا كان القارئ يقرأ سرا سواء أكان منفردا أم في مجلس.
(2) إذا كان خاليا سواء أقرأ سرا أم جهرا.
(3) إذا كان في الصلاة سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية.
(4) إذا كان يقرأ وسط جماعة يتدارسون القرآن كأن يكون في مقرأة ولم يكن هو المبتدئ بالقراءة.
وما عدا هذه المواطن يستحب الجهر بها.
تتميم:
إذا كان القارئ مبتدئا أول سورة تعين عليه الإتيان بالبسملة كما سيأتى، وحينئذ يجوز له بالنسبة للوقف على الاستعاذة أو وصلها بالبسملة أربعة أوجه: الأول الوقف على الاستعاذة وعلى البسملة.
الثاني الوقف على الاستعاذة ووصل البسملة بأول السورة.
الثالث وصل الاستعاذة بالبسملة والوقف عليها. الرابع وصل الاستعاذة بالبسملة ووصل البسملة بأول السورة، وهذه الأوجه الأربعة جائزة لجميع القراء العشرة عند الابتداء بأي سورة من سور القرآن سوى براءة.
أما الابتداء ببراءة فيجوز لكل منهم وجهان فقط: الأول الوقف على الاستعاذة. الثاني وصلها بأول السورة، ولا بسملة في أولها لجميع القراء كما يأتى.
وأما إذا كان ابتداؤه بآية في أثناء السورة كأول الربع أو أول القصة مثلا فيجوز له حينئذ الإتيان بالبسملة وتركها، فإذا أتى بالبسملة جازت له الأوجه الأربعة المذكورة، وإذا تركها جاز له وجهان: الأول: الوقف على الاستعاذة. الثاني: وصلها بأول الآية، وهذه الأوجه جائزة لسائر القراء أيضا.
(فائدة) لو قطع القارئ قراءته لطارئ قهري كعطاس أو تنحنح أو لكلام يتعلق بمصلحة القراءة كأن شك في شيء في القراءة وسأل من بجواره ليتثبت لا يعيد الاستعاذة. أما لو قطعها إعراضا عنها أو لكلام لا تعلق له بها ولو ردا لسلام فإنه يستأنف الاستعاذة. اهـ.

.قال ابن القيم:

قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سَلْطَان عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلطَانُهُ عَلَى الّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالّذِينَ هُمْ بِه مُشْرِكُونَ} [النحل: 98- 100].
ومعنى (استعذ بالله) امتنع به واعتصم به والجأ إليه، ومصدره العوذ، والعياذ، والمعاذ؛ وغالب استعماله في المستعاذ به، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: «لَقَدْ عُذْتِ بمُعَاذٍ».
وأصل اللفظة: من اللجأ إلى الشيء والاقتراب منه، ومن كلام العرب: (أطيب اللحم عوذه) أى الذي قد عاذ بالعظم واتصل به. وناقة عائذ: يعوذ بها ولدها، وجمعها (عوذ) كحمر. ومنه في حديث الحديبية: «مَعَهُمُ العُوذُ المَطَافِيلُ».
والمطافيل: جمع مطفل، وهى الناقة التي معها فصيلها.
قالت طائفة منهم صاحب جامع الأصول: استعار ذلك للنساء، أى معهم النساء وأطفالهم، ولا حاجة إلى ذلك، بل اللفظ على حقيقته. أى قد خرجوا إليك بدوابهم ومراكبهم حتى أخرجوا معهم النوق التي معها أولادها، فأمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن. وفى ذلك وجوه:
منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمَرَّه فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلى منه القلب ليصادف الدواء محلًا خاليا، فيتمكن منه، ويؤثر فيه، كما قيل:
أَتَانِى هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوى فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكّنَا

فيجئ هذا الدواء الشافى إلى قلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه.
ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولا، فكلما أحس بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.
والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله، أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفى الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.
وكأن من قال: إن الاستعاذة بعد القراءة لاحظ هذا المعنى، وهو لعمر الله ملحظ جيد، إلا أن السنة وآثار الصحابة إنما جاءت بالاستعاذة قبل الشروع في القراءة وهو قول جمهور الأمة من السلف والخلف، وهو محصل للأمرين.
ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته. كما في حديث أُسيد ابنُ حضَير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «تِلْكَ المَلائِكُة».
والشيطان ضد الملك وعدوه. فأمر القارئ أن يطلب من الله تعالى مباعدة عدوه عنه حتى يحضره خاصته وملائكته، فهذه وليمة لا يجتمع فيها الملائكة والشياطين.
ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه.
ومنها: أن القارئ مُناجٍ لله تعالى كلامه، والله تعالى أشد أذنًا للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته. والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء. فأمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته تعالى واستماع الرب قراءته.
ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته. كما قال الشاعر في عثمان:
تَمنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ وَآخِرَهُ لاقَى حِمَامَ المَقَادِرِ

فإذا كان هذا فعله مع الرسل عليهم الصلاة والسلام فكيف بغيرهم؟ ولهذا يغلط القارئ تارة ويخلط عليه القراءة، ويشوشها عليه، فيخبط عليه لسانه، أو يشوش عليه ذهنه وقلبه، فإذا حضر عند القراءة لم يعدم منه القارئ هذا أو هذا، وربما جمعهما له، فكان من أهم الأمور: الاستعاذة بالله تعالى منه عند القراءة.